الصدق والأمانة

هناك مفاهيم قيمية وأخلاقية تشكل أساس وجوهر القيم والأخلاق الإنسانية وتشكل هوية الفرد التي يعتمد عليها لتعريف ذاته أمام نفسه وأمام المجتمع٬ كما إنها تحدد شكل ونوع الإنتاج والاعمال التي يقدمها الفرد من خلال كل مساهماته الذاتية والمجتمعية. “الصدق” يعتبر من أهم القيم الإنسانية والتي للأسف بدأ يضعف ويضمحل وجوده وأثره مع مرور الوقت وذلك بسبب ركاكة فهمنا له كمعني وعدم ادراكنا لدوره المهم والفعال في حياتنا وتطورها. ضعف فهم معنى “الصدق” وأهميته أدى لوجود لبس بين مفهومي “المجاملة” و”النفاق”، فالمجاملة تعني المبالغة بقول حقيقة او رأي صادق، بينما النفاق يعني قول أمر غير حقيقي او رأي لا يعنيه او يقصده صاحبه بهدف انتفاع خاص، اي قول كاذب بغية اخذ منفعة خاصة. هذا اللبس بدأ يزداد ويكثر مؤخرا، كما اشرت آنفا، وهذا قد يكون نتيجة لتغير الحياة وأساليبها وضعف التعليم ومناهجه وعزوف الافراد عن القراءة والاطلاع المعرفي، خاصة بين الأجيال الجديدة. فكثير من الآباء ينهون ابناؤهم عن الكذب وهم بالوقت ذاته يمارسونه دون وعي منهم بسبب التعود او يمارسونه بوعي بحجة الكذبة البيضاء للمنفعة الأعظم، وبذلك ينشأ الابناء على فكرة وهي: “الكذب العلني غير مباح ويفترض عدم ممارسته بينما الكذب الخفي مباح ويمكن ممارسته عند الضرورات بحجة وجود منفعة أعظم” وهذه المنفعة الأعظم يقدرها الفرد شخصيا بينه وبين نفسه لتكون بذلك “منفعة خاصة”.
تشكل هذه الازدواجية في المفاهيم بتطبيقاتها واشكالها المعلنة واللا معلنة بذرة النفاق، وخطورة النفاق لا تنحصر فقط بممارسة الكذب لكنه يصل الى مستوى يتنصل به الفرد من “تحمل المسؤولية” تجاه أعماله وهو رد فعل طبيعي لممارسة الكذب، فمن يَدّعي قول غير حقيقي أي لا يوجد اتصال حقيقي بين الكلام الكاذب الذي يَدّعيه وبين الحقيقة التي يعتقدها ويؤمن بها فطبيعي بأنه لن يتحمل مسؤولية عمل هو لا يؤمن به. وعليه ظهر لدينا ما أسميه “بالمثالية الزائفة” اي إدعاء المثالية التي يبتغي الفرد من وراؤها المحافظة على ما حضي به من منافع ناتجه عن نفاقه اي كذبه، ومن المؤسف ان نرى ممارسات لمثالية كاذبة كثيرا بين كثير من الذين حولنا، فهم يحاولون ان يظهروا بمظهر الاخلاق بشكل مبالغ فيه لإضفاء صفات الورع ليحافظوا على وجاهة معينة او لتغطية امر ما او للمحافظة علي شيء زائف امتلكوه باستخدام النفاق، بينما “المثالية الحقيقية” تعتبر محاولة او تحدي لتطبيق فكرة غير ممارسة على ارض الواقع يبتغي من وراؤها الفرد الارتقاء بوضعه دون تنازل عن قيمه وأخلاقه. فالمثالية الحقيقية أساسها صلب لأنها صادرة عن صدق وتكون كالسلم المتصاعد الذي يتطور بالأفكار من خلال تطور فكرة تلو الأخرى بالتدريج. وعلي أن أشيره هنا الي ان المثالية يختلف تقديرها من شخص لآخر تبعا لزاوية منظورة، فمن يرى خط سير طائرة بين مدينتين لا يشكل الخط المستقيم فسيعتقد إن خط سير هذه الرحلة غير مثالي وذلك تبعا لحدود معرفته، بينما الرأي المثالي لصاحب الاختصاص سيكون مختلف لان معرفته التخصصية مختلفة وعليه سيجد آن خط سير هذه الرحلة هو الخط الأمثل بسبب ادراكه وفهمه للمعيقات والاشتراطات (مثل الاتفاقيات الدولية، كمية البنزين، حجم الطائرة، الخ) التي لا تسمح للطائرة بأخذ خط سير مستقيم، لذلك حضور وغياب المعرفة هي ما تجعل المثالية مختلف عليها من حيث حدودها ووجودها، فالاختلاف لا ينفي وجودها، ويكون التطبيق لها اهم برهان لصلاحيتها.

موضوع القيم والأخلاق ليس أبيض او أسود ولا يعني اننا منزهون ولا نخطئ، انا شخصيا أخطأت مرات عديدة في حياتي ولأسباب عديدة من أهمها الخوف، وبسببه جبنت بقول حقيقة انا اعرفها خوفا من تبعات الحقيقة التي ستلحقني ان تكلمت فآثرت السكوت، لكني دفعت ثمن سكوتي لاحقا فشعوري بأني ظلمت شخصا آخر، كان بإمكاني مساعدته، أكبر وأعظم ولم يتركني للحظة بعدها حتى سويت الامر وتحدثت بما اعرف … أي اعترفت. الا تعتقدون باننا كلنا نمتلك قصة من نوع ما تخص منظومة قيمنا وأخلاقنا؟ الا تعتقدون باننا نتشارك بشعور صراع الضمير عندما ينقسم بين طرفي الحق والباطل، الهوى وتطبيق القانون، المصلحة الخاصة والأخرى العامة، الشهوات واحترام حق الاخر؟ لكن هل كلنا نختار الخيار الأنسب الذي يضمن رقي منظومتنا الأخلاقية والذي يجعلنا نكون مطمئنين ومرتاحين؟ ام خياراتنا متغيرة تبعا لظروف الموقف؟ الا تعتقدون بأن هذا الصراع بين التمسك بأخلاقنا والتنازل عنها سيشكل من نكون وشخصياتنا وسمعتنا الآن وبالمستقبل؟ فنحن ننعت كل شخص بأنه “كذاب” ان مارس الكذب بشكل مكرر ومع عدة افراد مختلفين وننعت شخص آخر بأنه “فتّان” ان كان يخون السر كلما أؤتمن عليه؟
الا تعتقدون بان هذا الصراع وقراراتنا سيؤثر على شكل ونوع انتاجنا وعلاقاتنا مع أهلنا واحباؤنا ومجتمعنا؟
الا تستحق أنفسنا الأفضل؟ الا نستحق ان نعيش بمجتمع أفضل ونمارس ممارسات وسلوكيات أفضل؟

Share this post

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


عالية الخالد