الهوية الحضارية
“العالم العربي المعاصر يحتاج اليوم إلى فكر يخرج على قياس لغته المتطورة، وأصول حضارته الواجب تطويرها، وليس إلى قوالب جامدة تُصب أفكارنا فيها لتُغرب عن جذورها، وإحياء التراث وتحديثه يأتي في صلب هذا التوجه”. استوقفتني هذه العبارة عند قراءتي كتاب «ابن سينا حضوره الفكري بعد ألف عام» للدكتور جرار جهامي، حيث ربطت بينها وبين وضعنا الحالي من نظرة الغرب غير الحسنة لنا، فهناك صورة نمطية عامة تضعنا نحن كأمة إسلامية عربية في إطار وقالب محدد، وقواعد هذا القالب سريعاً ما تقع على الفرد، فور ما يعرف نفسه بأنه إنسان عربي مسلم، ولست هنا في صدد مناقشة ما إذا كان يحق للغرب عمل ذلك أو لا، ولكني آثرت أن أشرح تحليلي الشخصي لهذا الوضع وأسبابه.حضارتنا الإسلامية العربية تعتبر من أعرق الحضارات، ولها أثرها البارز في تشكيل وتطور الحضارات الغربية المعاصرة، ولكننا بدونا في نهاية المطاف الأمة غير المتحضرة! للأسف الخلل يكمن فينا كشعوب إسلامية عربية، فاحترام أي أمة ينطلق من احترام هذه الأمة لتاريخها وحضارتها، فالأساس هو الشعب المدرك لتاريخه وحضارته ومعاييرها وأسسها، هجرنا لتاريخنا وحضارتنا من خلال عدم معرفتنا بهما والتعمق فيهما ودراستهما حولنا إلى غرباء تجاههما، وجعلنا نفتقد هويتنا الفكرية الثقافية التي تشكل شخصيتنا التي نقابل بها الغير، وعوضاً عن تمسكنا بتاريخنا الحضاري وتطويره، انتهجنا مناهج فكرية عقيمة، تعمل على تحجيم العقل وإعماله، وفرض الحدود والقوالب بكل صرامة، مبتعدة عن المرونة والحرية الفكرية، هذه المناهج استقت أسسها من عادات وتقاليد مكتسبة من البيئة، وبذلك ابتعدت عن الأسس الفكرية والعقلية التي تعتمد على أسس علمية في تطبيقها، وفي متابعة نتائجها لتقييمها، هذا بدوره أثمر في إنتاج أجيال لا تتمتع بالمرونة لتقبل الغير، تطغى عليها العصبية، والأهم أثمرت أجيالاً جاهلة بحضارتها وتاريخها، وبالتالي مفتقدة لهويتها. أجيال أثرت الشكليات والمظاهر على الجوهر والقيم والمعاني الأسمى التي تشكل أسس ومحاور جميع السلوكيات الظاهرة، آثرنا التقليد الأعمى بغية البحث عن التحضر، وتناسينا أسباب وجوهر التحضر، التي تجعل منا فعلاً أمة متحضرة. التحضر في وقتنا الراهن يقاس على مستوى نتاج الأمم، ومستوى مساهمتها في رفعة مستوى الإنسانية جمعاء، وقد يكون هذا الإنتاج فكرياً، ثقافياً، صناعياً، تقنياً، طبياً، علمياً، ..إلخ، لهذا يكون الاهتمام بالفرد هو الهدف الأسمى لأي أمة تسعى وراء التحضر، فتطوير الفرد على أسس حضارته وتاريخه في جو من الحرية، ليسعى وراء أهداف مؤسسية عامة تشمل أفراد شعبه لتحقيق التطور، يساعد على تحديد هويته وذاته، وبالتالي يستطيع تقديم نفسه للعالم الخارجي، على أساس إنتاجه وهويته الحضارية.
اترك تعليقاً