فك أحجية دهشة الفساد
عادة ما يعرف العقل بأنه العنصر الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ولكن في الحقيقة، الأمر أكبر من مجرد عقل. فالإنسان لديه جوانب عديدة تشكل ما هو عليه الآن من كائن حي، فهناك النفس والذات اللتان لا يمكن أن يكونا فاعلين إلا بالعقل، ولا يمكن للعقل أن يكون فاعلا إلا بهما. عملية التفاعل بين النفس والذات تشكل المحور الأساسي للإدراك العقلي لكل ما هو محسوس وملموس، فانقلاب النفس وانفتاحها على الذات لتتكشف لها ولتتقبلها يُكون ما هو معروف بـ «العقل المنفعل» أي المنفعل حسيا ووجدانيا ليدرك ما هو موجود ومختزن في الذات. ويرتقي العقل من «منفعل» إلى «فعّال» عندما تنسجم النفس مع الذات بعد انفتاحها الداخلي حتى تدرك العناصر الخارجية باليقين وهو صدق الحُكم على المعلومات المتفاعلة داخل النفس وخارجها بواقع الحياة.. هذه العملية تسهل على الإنسان العملية المعرفية السوية بكل جوانبها من قراءة وفهم وتصنيف وتعامل والأهم التعقب، وهو الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا من بعد تواجد هذا الانسجام والتطابق بين النفس والذات اي بين المنطق والوجود، وهو الأمر الذي يضمن الاستقرار للكيان الإنساني المفرد.وجود خلل أو عدم اتزان في العلاقة المذكورة آنفا يسبب «الدهشة»، والدهشة عبارة عن حالة انفعالية طبيعية تصيب الادراك العقلي إذا كان الامر المتفاعل به غير مدرج في ارشيفه الذهني النفسي الذاتي والذي يشكل عقله الفعال. كرد فعل بشري طبيعي ولكون الإنسان مفطورا على الاتزان، فهو يسعى لمعالجة هذا الأمر بأسرع وأيسر السبل. ولكن ماذا يمكن أن يحدث إذا ما عجز الفرد عن تدارك هذا الخلل من خلال التصويب الصحيح؟ ماذا يمكن ان يحدث في مجتمع تفشى فيه هذا الخلل بسبب جهل أو تراجع أو قلة وعي أفراده؟ بطبيعة الحال ستسقط الكثير من القيم والمبادئ والاخلاقيات، وسوف ينتشر التأويل العشوائي المنحاز واللامنطقي.. أليس هذا واقع حالنا؟ الفساد المنتشر لدينا بكل اشكاله تم تأويل تحريمه بآلية نفسية داخلية عقيمة حتى يجد المفسد مبررات تحلل أفعاله ومكتسباته. كذلك السكوت المدقع على الفساد من قبل الكل، والاستسلام له ليعبر عن حالة اعتياد وتعوُّد، وذلك بسبب وجود الخلل نفسه.جهلنا لذواتنا ليس بسبب مؤامرة محاكة ضد العرب أو المسلمين، وليس بسبب قلة ثقافتنا واطلاعنا، ولكن لكوننا افتقدنا العقل المنفعل من خلال انكشافنا على ذواتنا وتقبلها حتى نكون، باجتماع النفس والذات، عقلا فعالا يتفاعل بكل شفافية وعلى أصول ومبادئ انسانية حقة مع المعطيات والعناصر الخارجية حتى ندرك اليقين. ومقولة الشيخ محمد عبده رحمه الله الشهيرة «رأيت الإسلام ولم أر المسلمين، ورأيت المسلمين ولم أر الإسلام»، والتي قالها في باريس في فترة نفيه هناك في نهاية القرن التاسع عشر، لم تأت من فراغ بل أتت لإدراك هؤلاء غير المسلمين حق الادراك بذواتهم وانقلابهم عليها لمكاشفتها بإيجابياتها وسلبياتها لتحقيق الاتزان النفسي الذاتي والذهني.
اترك تعليقاً